فصل: سنة ثماني عشرة وستمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر عود التتر من بلاد الروس وقفجاق إلى ملكهم:

لما فعل التتر بالروس ما ذكرناه، ونهبوا بلادهم، عادوا عنها وقصدوا بلغار أواخر سنة عشرين وستمائة، فلما سمع أهل بلغار بقربهم منهم كمنوا لهم في عدة مواضع، وخرجوا إليهم فلقوهم، واستجروهم إلى أن جاوزوا موضع الكمناء، فخرجوا عليهم من وراء ظهورهم، فبقوا في الوسط، وأخذهم السيف من كل ناحية، فقتل أكثرهم، ولم ينج منهم إلا القليل.
قيل: كانوا نحو أربعة آلاف رجل، فساروا إلى سقسين عائدين إلى ملكهم جنكزخان، وخلت أرض قفجاق منهم، فعاد من سلم منهم إلى بلادهم، وكان الطريق منقطعاً مذ دخلها التتر، فلم يصل منهم شيء من البرطاسي والسنجاب والقندر وغيرها مما يحمل من تلك البلاد، فلما فارقوها عادوا إلى بلادهم، واتصلت الطريق، وحملت الأمتعة كما كانت.
هذه أخبار التتر المغربة قد ذكرناها سياقة واحدة لئلا تنقطع.

.ذكر ما فعله التتر بما وراء النهر بعد بخارى وسمرقند:

قد ذكرنا ما فعله التتر المغربة التي سيرها ملكهم جنكزخان، لعنه الله، إلى خوارزم شاه؛ وأما جنكزخان فإنه بعد أن سير هذه الطائفة إلى خوارزم شاه وبلغه انهزام خوارزم شاه من خراسان، قسم أصحابه عدة أقسام، فسير قسماً منها إلى بلاد فرغانة ليملكوها؛ وسيسر قسماً آخر منها إلى ترمذ؛ وسير قسماً منها إلى كلانة، وهي قلعة حصينة على جانب جيحون، من أحصن القلاع وأمنع الحصون، فسارت كل طائفة إلى الجهة التي أمرت بقصدها، ونازلتها، واستولت عليها، وفعلت من القتل، والأسر، والسبي، والنهب، والتخريب، وأنواع الفساد، مثل ما فعل أصحابها.
فلما فرغوا من ذلك عادوا إلى ملكهم جنكزخان وهو بسمرقند، فجهز جيشاً عظيماً مع أحد أولاده وسيرهم إلى خوارزم، وسير جيشاً فعبروا جيحون إلى خراسان.

.ذكر ملك التتر خراسان:

لما سار الجيش المنفذ إلى خراسان عبروا جيحون، وقصدوا مدينة بلخ، فطلب أهلها الأمان، فأمنوهم، فسلم البلد سنة سبع عشرة وستمائة، ولم يتعرضوا له بنهب ولا قتل، بل جعلوا فيه شحنة وساروا وقصدوا الزوزان، وميمند، وأندخوي، وقاريات، فملكوا الجميع وجعلوا فيه ولاة، ولم يتعرضوا لأهلها بسوء ولا أذى، سوى أنهم كانوا يأخذون الرجال ليقاتلوا بهم من يمتنع عليهم، حتى وصلوا إلى الطالقان، وهي ولاية تشتمل على عدة بلاد، وفيها قلعة حصينة يقال لها منصوركوه، لا ترام علواً وارتفاعاً، وبها رجال يقاتلون، شجعان، فحصروها مدة ستة أشهر يقاتلون أهلها ليلاً ونهاراً ولا يظفرون منها بشيء.
فأرسلوا إلى جنكزخان يعرفونه عجزهم عن ملك هذه القلعة، لكثرة من فيها من المقاتلة، ولامتناعها بحصانتها، فسار بنفسه وبمن عنده من جموعه إليهم، وحصرها، ومعه خلق كثير من المسلمين أسرى، فأمرهم بمباشرة القتال وإلا قتلهم، فقاتلوا معه، وأقام عليها أربعة أشهر أخرى فقتل من التتر عليها خلق كثير، فلما رأى ملكهم ذلك أمر أن يجمع له من الحطب والأخشاب ما أمكن جمعه، ففعلوا ذلك، وصاروا يعملون صفاً من خشب، وفوقه صفاً من تراب، فلم يزالوا كذلك حتى صار تلاً عالياً يوازي القلعة، وصعد الرجالة فوقه ونصبوا عليه منجنيقاً فصار يرمي إلى وسط القلعة وحملوا على التتر حملة واحدة فسلم الخيالة منهم ونجوا، وسلكوا تلك الجبال والشعاب.
وأما الرجالة فقتلوا، ودخل التتر القلعة، وسبوا النساء والأطفال، ونهبوا الأموال والأمتعة.
ثم إن جنكزخان جمع أهل البلاد الذين أعطاهم الأمان ببلخ وغيرها، وسيرهم مع بعض أولاده إلى مدينة مرو، فوصلوا إليها وقد اجتمع بها من الأعراب والأتراك وغيرهم ممن نجا من المسلمين ما يزيد على مائتي ألف رجل، وهم معسكرون بظاهر مرو، وهم عازمون على لقاء التتر، ويحدثون نفوسهم بالغلبة لهم، والاستيلاء عليهم؛ فلما وصل التتر إليهم التقوا واقتتلوا، فصبر المسلمون؛ وأما التتر فلا يعرفون الهزيمة، حتى إن بعضهم أسر، فقال وهو عند المسلمين: إن قيل إن التتر يقتلون فصدقوا، وإن قيل إنهم انهزموا فلا تصدقوا.
فلما رأى المسلمون صبر التتر وإقدامهم، ولو منهزمين، فقتل التتر منهم وأسروا الكثير، ولم يسلم إلا القليل، ونهبت أموالهم، وسلاحهم، ودوابهم، وأرسل التتر إلى ما حولهم من البلاد يجمعون الرجال لحصار مرو، فلما اجتمع لهم ما أرادوا تقدموا إلى مرو وحصروها، وجدوا في حصرها، ولازموا القتال.
وكان أهل البلد قد ضعفوا بانهزام ذلك العسكر، وكثرة القتل والأسر فيهم، فلما كان اليوم الخامس من نزولهم أسل التتر إلى الأمي الذي بها متقدماً على من فيها يقولون له: لا تهلك نفسك وأهل البلد، واخرج إلينا فنحن نجعلك أمير هذه البلدة ونرحل عنك؛ فأرسل يطلب الأمان لنفسه ولأهل البلد، فأمنهم، فخرج إليهم، فخلع عليه ابن جنكزخان، واحترمه، وقال له: أريد أن تعرض علي أصحابك حتى ننظر من يصلح لخدمتنا استخدمناه، وأعطيناه إقطاعاً، ويكون معنا.
فلما حضروا عنده، وتمكن منهم، قبض عليهم وعلى أميرهم، وكتفوهم؛ فلما فرغ منهم قال لهم: اكتبوا إلى تجار البلد ورؤسائه، وأرباب الأموال في جريدة، واكتبوا إلى أرباب الصناعات والحرف في نسخة أخرى، واعرضوا ذلك علينا؛ ففعلوا ما أمرهم، فلما وقف على النسخ أمر أن يخرج أهل البلد منه بأهليهم، فخرجوا كلهم، ولم يبق فيه أحد، فجلس على كرسي من ذهب وأمر أن يحضر أولئك الأجناد الذين قبض عليهم، فأحضروا، وضربت رقابهم صبراً والناس ينظرون إليهم ويبكون.
وأما العامة فإنهم قسموا الرجال والنساء والأطفال والأموال، فكان يوماً مشهوداً من كثرة الصراخ والبكاء والعويل، وأخذوا أرباب الأموال فضربوهم، وعذبوهم بأنواع العقوبات في طلب الأموال، فربما مات أحدهما من شدة الضرب، ولم يكن بقي له ما يفتدي به نفسه، ثم إنهم أحرقوا البلد، وأحرقوا تربة السلطان سنجر، ونبشوا القبر طلباً للمال، فبقوا كذلك ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع أمر بقتل أهل البلد كافة، وقال: هؤلاء عصوا علينا، فقتلوهم أجمعين؛ وأمر بإحصاء القتلى، فكانوا نحو سبعمائة ألف قتيل، فإنا لله وإنا إليه راجعون مما جرى على المسلمين ذلك اليوم.
ثم ساروا إلى نيسابور فحصروها خمسة أيام، وبها جمع صالح من العسكر الإسلامي، فلم يكن لهم بالتتر قوة، فملكوا المدينة، وأخرجوا أهلها إلى الصحراء فقتلوهم، وسبوا حريمهم، وعاقبوا من اتهموه بالمال، كما فعلوا بمرو، وأقاموا خمسة عشر يوماً يخربون، ويفتشون المنازل عن الأموال.
وكانوا لما قتلوا أهل مرو قيل لهم إن قتلاهم سلم منهم كثير، ونجوا إلى بلاد الإسلام، فأمروا بأهل نيسابور أن تقطع رؤوسهم لئلا يسلم من القتل أحد، فلما فرغوا من ذلك سيروا طائفة منهم إلى طوس، ففعلوا بها كذلك أيضاً، وخربوها وخربوا المشهد الذي فيه علي بن موسى الرضى، والرشيد، حتى جعلوا الجميع خراباً.
ثم ساروا إلى هراة، وهي من أحصن البلاد، فحصروها عشرة أيام فملكوها وأمنوا أهلها، وقتلوا منهم البعض، وجعلوا عند من سلم منهم شحنة، وساروا إلى غزنة، فلقيهم جلال الدين بم خوارزم شاه فقاتلهم وهزمهم على ما نذكره إن شاء الله، فوثب أهل هراة على الشحنة فقتلوه، فلما عاد المنهزمون إليهم دخلوا البلد قهراً وعنوة، وقتلوا كل من فيه، ونهبوا الأموال وسوبا الحريم، ونهبوا السواد وخربوا المدينة جميعها وأحرقوها، وعادوا إلى ملكهم جنكزخان وهو بالطالقان يرسل السرايا إلى جميع بلاد خراسان، ففعلوا بها كذلك، ولم يسلم من شرهم وفسادهم شيء من البلاد، وكان جميع ما فعلوه بخراسان سنة سبع عشرة.

.ذكر ملكهم خوارزم وتخريبها:

وأما الطائفة من الجيش التي سيرها جنكزخان إلى خوارزم، فإنها كانت أكثر السرايا جميعها لعظم البلد، فساروا حتى وصلوا إلى خوارزم وفيها عسكر كبير، وأهل البلد معروفون بالشجاعة والكثرة، فقاتلوهم أشد قتال سمع به الناس، ودام الحصر لهم خمسة أشهر، فقتل من الفريقين خلق كثير، إلا أن القتلى من التتر كانوا أكثر لأن المسلمين كان يحميهم السور.
فأرسل التتر إلى ملكهم جنكزخان يطلبون المدد، فأمدهم بخلق كثير، فلما وصلوا إلى البلد زحفوا زحفاً متتابعاً، فملكوا طرفاً منه، فاجتمع أهل البلد وقاتلوهم في طرف الموضع الذي ملكوا، فلم يقدروا على إخراجهم، ولم يزالوا يقاتلونهم، والتتر يملكون منهم محلة بعد محلة، وكلما ملكوا محلة قاتلهم المسلمون في المحلة التي تليهم، فكان الرجال والنساء والصبيان يقاتلون، فلم يزالوا كذلك حتى ملكوا البلد جميعه، وقتلوا كل من فيه، ونهبوا كل ما فيه؛ ثم إنهم فتحوا السكر الذي يمنع ماء جيحون عن البلد فدخله الماء، فغرق البلد جميعه، وتهدمت الأبنية، وبقي موضعه ماء، ولم يسلم من أهله أحد البتة، فإن غيره من البلاد قد كان يسلم بعض أهله، منهم من يختفي، ومنهم من يهرب، ومنهم من يخرج ثم يسلم، ومنهم من يلقي نفسه بين القتلى فينجو؛ وأما أهل خوارزم فمن اختفى من التتر غرقه الماء، أو قتله الهدم، فأصبحت خراباً يباباً:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ** أنيس ولم يسمر بمكة سامر

وهذا لم يسمع بمثله في قديم الزمان وحديثه، نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الخذلان بعد النصر، فلقد عمت هذه المصيبة الإسلامية وأهله، فكم من قتيل من أهل خراسان وغيرها، لأن القاصدين من التجار وغيرهم كانوا كثيراً، مضى الجميع تحت السيف.
ولما فرغوا من خراسان وخوارزم عادوا إلى ملكهم بالطالقان.

.ذكر ملك التتر غزنة وبلاد الغور:

لما فرغ التتر من خراسان وعادوا إلى ملكهم جهز جيشاً كثيفاً وسيره إلى غزنة وبها جلال الدين بن خوارزم شاه مالكاً لها، وقد اجتمع إليه من سمل من عسكر أبيه، قيل: كانوا ستين ألفاً، فلما وصلوا إلى أعمال غزنة خرج إليهم المسلمون مع ابن خوارزم شاه إلى موضع يقال له بلق، فالتقوا هناك واقتتلوا قتالاً شديداً، وبقوا كذلك ثلاثة أيام، ثم أنزل الله نصره على المسلمين، فانهزم التتر وقتلهم المسلمون كيف شاؤوا، ومن سلم منهم عاد إلى ملكهم بالطالقان، فلما سمع أهل هراة بذلك ثاروا بالوالي الذي عندهم للتتر فقتلوه، فسير إليهم جنكزخان عسكراً فملكوا البلد وخربوه كما ذكرناه.
فما انهزم التتر أرسل جلال الدين رسولاً إلى جنكزخان يقول له: في أي موضع تريد أن يكون الحرب حتى نأتي أليه؟ فجهز جنكزخان عسكراً كثيراً، أكثر من الأول مع بعض أولاده، وسيره إليه، فوصل إلى كابل، فتوجه العسكر الإسلامي إليهم، وتصافوا هناك، وجرى بنيهم قتال عظيم، فانهزم الكفار ثانياً، فقتل كثير منهم، وغنم المسلمون ما معهم، وكان عظيماً؛ وكان معهم من أسارى المسلمين خلق كثير، فاستنقذوهم وخلصوهم.
ثم إن المسلمين جرى بينهم فتنة لأجل الغنيمة، وسبب ذلك أن أميراً منهم يقال له سيف الدين بغراق، أصله من الأتراك الخلج، كان شجاعاً مقداماً، ذا رأي في الحرب ومكيدة، واصطلى الحرب مع التتر بنفسه، وقال العسكر جلال الدين: تأخروا أنتم فقد ملثم منهم رعباً؛ وكان معهم من أسارى المسلمين خلق كثير، فاستنقذوهم وخلصوهم.
وكان من المسلمين أيضاً أمير كبير يقال له ملك خان، بينه وبين خوارزم شاه نسب، وهو صاحب هراة، فاختلف هذان الأميران في الغنيمة، فاقتتلوا، فقتل بينهم أخ لبغراق. فقال بغراق: أنا أهزم الكفار ويقتل أخي لأجل هذا السحت! فغضب وفارق العسكر وسار إلى الهند، فتبعه من العسكر ثلاثون ألفاً كلهم يريدونه، فاستعطفه جلال الدين بكل طريق، وسار بنفسه إليه، وذكره الجهاد، وخوفه من الله تعالى، وبكى بين يديه، فلم يرجع، وسار مفارقاً، فانكسر لذلك المسلمون وضعفوا.
فبينما هم كذلك إذ ورد الخبر أن جنكزخان قد وصل في جموعه وجيوشه، فلما رأى جلال الدين ضعف المسلمين لأجل من فارقهم من العسكر، ولم يقدر على المقام، سار نحو بلاد الهند، فوصل إلى ماء السند، وهو نهر كبير، فلم يجد من السفن ما يعبر فيه.
وكان جنكزخان يقص أثره مسرعاً، فلم يتمكن جلال الدين من العبور، حتى أدركه جنكزخان في التتر، فاضطر المسلمون حينئذ إلى القتال والصبر لتعذر العبور عليهم، وكانوا في ذلك كالأشقر إن تأخر يقتل وإن تقدم يعقر، فتصافوا واقتتلوا أشد قتال، اعترفوا كلهم أن كل ما مضى من الحروب كان لعباً بالنسبة إلى هذا القتال، فبقوا كذلك ثلاثة أيام، فقتل الأمير ملك خان المقدم ذكره وخلق كثير، وكان القتل في الكفار أكثر، والجراح أعظم، فرجع الكفار عنهم، فأبعدوا، ونزلوا على بعد، فلما رأى المسلمون أنهم لا مدد لهم، وقد ازدادوا ضعفاً بمن قتل منهم وجرح، ولم يعلموا بما أصاب الكفار من ذلك، أرسلوا يطلبون السفن، فوصلت، وعبر المسلمون ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
فلما كان الغد عاد الكفار إلى غزنة، وقد قويت نفسوهم بعبور المسلمين الماء إلى جهة الهند وبعدهم، فلما وصلوا إليها ملكوها لوقتها لخلوها من العسكر والمحامي، فقتلوا أهلها، ونهبوا الأموال، وسبوا الحريم، ولم يبق أحد، وخربوها وأحرقوها، وفعلوا بسوادها كذلك، ونهبوا وقتلوا وأحرقوا، فأصبحت تلك الأعمال جميعها خالية من الأنيس، خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس.

.ذكر تسليم الأشرف خلاط إلى أخيه شهاب الدين غازي:

أواخر هذه السنة أقطع الملك الأشرف موسى بن العادل مدينة خلاط وجميع الأعمال: أرمينية، ومدينة ميافارقين من ديار بكر، ومدينة حاني، أخاه شهاب الدين غازي بن العادل، وأخذ منه مدينة الرها، ومدينة سروج من بلاد الجزيرة، وسيره إلى خلاط أول سنة ثماني عشرة وستمائة.
وسب ذلك أن الكرج لما قصد التتر بلادهم وهزموهم، ونهبوها، وقتلوا كثيراً من أهلها، أرسلوا إلى أوزبك، صاحب أذربيجان وأران، يطلبون منه المهادنة والموافقة على دفع التتر، وأرسلوا إلى الملك الأشرف في هذا المعنى، وقالوا للجميع: إن لم توافقونا على قتال هؤلاء القوم ودفعهم عن بلادنا، وتحضروا بنفوسكم وعساكركم لهذا المهم، وإلا صالحناهم عليكم.
فوصلت رسلهم إلى الأشرف وهو يتجهز إلى الديار المصرية لأجل الفرنج، وكانوا عنده أهم الوجوه، لأسباب: أولها أن الفرنج كانوا قد ملكوا دمياط، وقد أشرفت الديار المصرية على أن تملك، فلو ملكوها لم يبق بالشام ولا غيره معهم ملك لأحد.
وثانيها أن الفرنج أشد شكيمة، وطالبوا ملك، فإذا ملكوا قرية لا يفارقونها إلا بعد أن يعجزوا عن حفظها يوماً واحداً.
وثالثها أن الفرنج قد طمعوا في كرسي مملكة البيت العادلي، وهي مصر، والتتر لم يصلوا إليها، ولم يجاوزوا شيئاً من بلادهم، وليسوا أيضاً ممن يريد المنازعة في الملك، وما غرضهم إلا النهب، والقتل، وتخريب البلاد، والانتقال من بلد إلى آخر.
فلما أتاه رسل الكرج بما ذكرناه، أجابهم يعتذر بالمسير إلى مصر لدفع الفرنج، ويقول لهم: إنني قد أقطعت ولاية خلاط لأخي، وسيرته إليها ليكون بالقرب منكم، وتركت عنده العساكر، فمتى احتجتم إلى نصرته حضر لدفع التتر؛ وسار هو إلى مصر كما ذكرناه.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة، في ربيع الآخر، ملك بدر الدين قلعة تل أعفر.
وفيها، في جمادى الأولى، ملك الأشرف مدينة سنجار.
وفيها أيضاً وصل الموصل، وأقام بظاهرها، ثم سار يريد إربل لقصد صاحبها، فترددت الرسل بينهم في الصلح، فاصطلحوا في شعبان، وقد تقدم هذا جميعه مفصلاً سنة خمس عشرة وستمائة.
وفيها وصل التتر الري فملكوها وقتلوا كل من فيها، ونهبوها، وساروا عنها، فوصلوا إلى همذان، فلقيهم رئيسها بالطاعة والحمل، فأبقوا على أهلها وساروا إلى أذربيجان، فخربوا، وحرقوا البلاد، وقتلوا، وسبوا، وعملوا ما لم يسمع بمثله، وقد تقدم أيضاً مفصلاً.
وفيها توفي نصير الدين ناصر بن مهدي العلوي الذي كان وزير الخليفة، وصلي عليه بجامع القصر، وحضره أرباب الدولة ودفن بالمشهد.
وفيها توفي صدر الدين أبو الحسن محمد بن حموية الجويني، شيخ الشيوخ بمصر والشام، وكان موته بالموصل وردها رسولاً، وكان فقيهاً فاضلاً، وصوفياً صالحاً، من بيت كبير من خراسان، رحمه الله، كان نعم الرجل.
وفيها عاد جمع بني معروف إلى مواضعهم من البطيحة، وكانوا قد ساروا إلى الأجنا والقطيف، فلم يمكنهم المقام لكثرة أعدائهم، فقصدوا شحنة البصرة، وطلبوا منه أن يكاتب الديوان ببغداد بالرضى عنهم، فكتب معهم بذلك وسيرهم مع أصحابه إلى بغداد، فلما قاربوا واسط لقيهم قاصد من الديوان بقتلهم، فقتلوا. ثم دخلت:

.سنة ثماني عشرة وستمائة:

.ذكر وفاة قتادة أمير مكة وملك ابنه الحسن وقتل أمير الحاج:

في هذه السنة، في جمادى الآخرة، توفي قتادة بن إدريس العلوي، ثم الحسني، أمير مكة، حرسها الله، بها، وكان عمره نحو تسعين سنة، وكانت ولايته قد اتسعت من حدود اليمن إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وله قلعة ينبع بنواحي المدينة، وكثر عسكره، واستكثر من المماليك، وخافه العرب في تلك البلاد خوفاً عظيماً.
وكان، في أول ملكه، لما ملك مكة، حرسها الله، حسن السيرة أزال عنها العبيد المفسدين، وحمى البلاد، وأحسن إلى الحجاج، وأكرمهم، وبقي كذلك مدة، ثم إنه بعد ذلك أساء السيرة، وجدد المكوس بمكة، وفعل أفعالاً شنيعة، ونهب الحاج في بعض السنين كما ذكرناه.
ولما مات ملك بعده ابنه الحسن، وكان له ابن آخر اسمه راجح، مقيم في العرب بظاهر مكة، يفسد، وينازع أخاه في ملك مكة، فلما سار حاج العراق كان الأمير عليهم مملوكاً من مماليك الخليفة الناصر لدين الله اسمه أقباش، وكان حسن السيرة مع الحاج في الطريق، كثير الحماية، فقصده راجح ابن قتادة، وبذل له وللخليفة مالاً ليساعده على ملك مكة، فأجابه إلى ذلك، ووصولا إلى مكة، ونزلوا بالزاهر، وتقدم إلى مكة مقاتلاً لصاحبها حسن.
وكان حسن قد جمع جموعاً كثيرة من العرب وغيرها، فخرج إليه من مكة وقاتله، وتقدم أمير الحاج من بين يدي عسكره منفرداً، وصعد الجبل إدلالاً بنفسه، وأنه لا يقدم أحد عليه، فأحاط به أصحاب حسن، وقتلوه، وعلقوا رأسه، فانهزم عسكر أمير المؤمنين، وأحاط أصحاب حسن بالحاج لينهبوهم، فأرسل إليهم حسن عمامته أماناً للحجاج، فعاد أصحابه ولم ينهبوا منهم شيئاً وسكن الناس، وأذن لهم حسن في دخول مكة وفعل ما يريدونه من الحج والبيع وغير ذلك، وأقاموا بمكة عشرة أيام، وعادوا، فوصلوا إلى العراق سالمين، وعظم الأمر على الخليفة، فوصلت رسل حسن يعتذرون، ويطلبون العفو عنه، فأجيب إلى ذلك.
وقيل في موت قتادة: إن ابنه حسناً خنقه فمات؛ وسبب ذلك أن قتادة جمع جموعاً كثيرة وسار عن مكة يريد المدينة، فنزل بوادي الفرع وهو مريض، وسير أخاه على الجيش ومعه ابنه الحسن بن قتادة، فلما أبعدوا بلغ الحسن أن عمه قال لبعض الجند: إن أخي مريض، وهو ميت لا محالة؛ وطلب منهم أن يحلفوا له ليكون هو الأمير بعد أخيه قتادة، فحضر الحسن عند عمه، واجتمع إليه كثير من الأجناد والمماليك الذي لأبيه، فقال الحسن لعمه: قد فعلت كذا وكذا، فقال: لم أفعل؛ فأمر حسن الحاضرين بقتله، فلم يفعلوا، وقالوا: أنت أمير وهذا أمير، ولا نمد أيدينا إلى أحدكما. فقال له غلامان لقتادة: نحن عبيدك، فمرنا بما شئت؛ فأمرهم أن يجعلا عمامة عمه في عنقه، ففعلا، ثم قتله.
فسمع قتادة الخبر، فبلغ منه الغيظ كل مبلغ، وحلف ليقتلن ابنه، وكان على ما ذكرناه من المرض، فكتب بعض أصحابه إلى الحسن يعرفه الحال، ويقول له: ابدأ به قبل أن يقتلك؛ فعاد الحسن إلى مكة، فلما وصلها قصد دار أبيه في نفر يسير فوجد على باب الدار جمعاً كثيراً، فأمرهم بالانصراف إلى منازلهم، ففارقوا الدار وعادوا إلى مساكنهم، ودخل الحسن إلى أبيه، فلما رآه أبوه شمته، وبالغ في ذمه وتهديده، فوثب إليه الحسن فخنقه لوقته، وخرج إلى الحرم الشريف، وأحضر الأشراف، وقال: إن أبي قد اشتد مرضه، وقد أمركم أن تحلفوا لي أن أكون أنا أميركم؛ فحلفوا له، ثم إنه أظهر تابوتاً ودفنه ليظن الناس أنه مات، وكان قد دفنه سراً.
فلما استقرت الإمارة بمكة له أرسل إلى أخيه الذي بقلعة الينبع على لسان أبيه يستدعيه، وكتم موت أبيه عنه، فلما حضر أخوه قتله أيضاً، واستقر أمره، وثبت قدمه، وفعل بأمير الحاج ما تقدم ذكره، فارتكب عظيماً: قتل أباه وعمه وأخاه في أيام يسيرة، لا جرم لم يمهله الله، سبحانه وتعالى، نزع ملكه، وجعله طريداً شريداً خائفاً يترقب.
وقيل إن قتادة كان يقول شعراً، فمن ذلك أنه طلب ليحضر عند أمير الحاج، كما جرت عادة أمراء مكة، فامتنع، فعوتب من بغداد، فأجاب بأبيات شعر منها:
ولي كف ضرغام أدل ببطشها ** وأشري بها بين الورى وأبيع

تظل ملوك الأرض تلثم ظهرها ** وفي وسطها للمجدبين ربيع

أأجعلها تحت الرحا ثم أبتغي ** خلاصاً لها؟ إني إذاً لرقيع!

وما أنا إلا المسك في كل بلدة ** يضوع، وأما عندكم فيضيع

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة استعاد المسلمون مدينة دمياط بالديار المصرية من الفرنج، وقد تقدم ذكرها مشروحاً مفصلاً.
وفيها، في صفر، ملك التتر مراغة وخربوها وأحرقوها وقتلوا أكثر أهلها ونهبوا أموالهم وسبوا حريمهم.
وسار التتر منها إلى همذان وحصروها، فقاتلهم أهلها وظفر بهم التتر منهم ما لا يحصى، ونهبوا البلد.
وساروا إلى أذربيجان فاعادوا النهب، ونهبوا ما بقي من البلاد، ولم ينهبوه أولاً.
ووصلوا إلى بيلقان من بلاد أران، فحصروها وملكوها وقتلوا أهلها حتى كادوا يفنونهم ونهبوا أموالهم، وساروا إلى بلاد الكرج من أذربيجان وأران، فلقيهم خلق كثير من الكرج فقاتلوهم وانهزم الكرج وكثر القتل فيهم ونهب أكثر بلادهم وقتل أهلها، وساروا من هناك إلى دربند شروان، فحصروا مدينة شماخي وملكوها، وقتلوا كثيراً من أهلها.
وساروا إلى بلد اللان واللكز ومن عندهم من الأمم، فأوقعوا، ورحلوا عن فقجاق، وأجلوهم عنها، واستولوا عليها، وساحوا في تلك الأرض حتى وصولا إلى بلاد الروس، وقد تقدم ذكر جميعه مستقصى، وإنما أوردناه هاهنا جملة ليعلم الذي كان في هذه السنة من حوادثهم.
وفيها توفي صديقنا أمين الدين ياقوت الكاتب الموصلي، ولم يكن في زمانه من يكتب ما يقاربه، ولا من يؤدي طريقة ابن البواب مثله؛ وكان ذا فضائل جمة من علم الأدب وغيره، وكان كثير الخير، نعم الرجل، مشهوراً في الدنيا، والناس متفقون على الثناء الجميل عليه والمدح له، ولهم فيه أقوال كثيرة نظماً ونثراً، فمن ذلك ما قاله نجيب الدين الحسين بن علي الواسطي من قصيدة يمدحه بها:
جامع شارد العلوم ولولا ** ه لكانت أم الفضائل ثكلى

ذو يراع تخاف سطوته الأس ** د وتعنو له الكتائب ذلاً

وإذا افتر ثغره عن سواد ** في بياض فالبيض والسمر خجلى

أنت بدر والكاتب ابن هلال ** كأبيه لا فخر فيمن تولى

ومنها:
إن يكن أولاً، فإنك بالتف ** ضيل أولى، لقد سبقت وصلى

وهي طويلة، والكاتب ابن هلال هو ابن البواب الذي هو أشهر من أن يعرف.
وفيها توفي جلال الدين الحسن، وهو من أولاد الحسن بن الصباح، الذي تقدم ذكره، صاحب الموت وكردكوه، وهو مقدم الإسماعيلية؛ وقد ذكرنا أنه كان قد أظهر شريعة الإسلام من الأذان والصلاة، وولي بعد ابنه علاء الدين محمد. ثم دخلت: